كلمة "مجنون" ليست علميّة ولا حتّى طبّيّة، وقد استعملت باللغة العربيّة بشكل عامّ إشارة إلى شخص زال عقله أو فسد، أو دخلته الجنّ أي ممسوس، وبات يتصرّف بشكل غير طبيعيّ. بالمقابل، استعملت أحيانًا بشكل إيجابيّ للتعبير عن حالة معيّنة مثل عشق أو شغف بشخص ما أو أمر ما أو بالله.
يخبرنا الإنجيليّ متّى عن مجنونيْن[1] التقى بهما يسوع خرجا من القبور، كانا شرسيْن جدًّا حَتَّى لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَجْتَازَ مِنْ أمامهما. الملفت في الأمر أنّهما صرخا بوجهه قائليْن: «مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟».
كلامهما غريب جدًّا وعميق في آن، أوّلًا يقولان له بأنّه ابن الله، وثانيًا يسألانه إذا جاء قبل الوقت ليعذّبهما!
النصّ اليونانيّ الأصليّ يستعمل كلمة daimonizómenoi /δαιμονιζόμενοι أي مسكون من الشيطان. نعم، عدوّ الإنسان يعرف جيّدًا مخلّص الإنسان! وللأسف الشديد أحيانًا كثيرة نحن ننسى ونغفل عن أنّ مخلّصنا الربّ يسوع المسيح جاء ليحرّرنا من سلطة الشرّير علينا، وبصيرورة يسوع إنسانًا لم يعد الشيطان يستطيع أن يسكن فينا.
جاء الربّ إلينا ليعيدنا إلى طبيعتنا التي خلقَنا عليها، أنقياء خالين من الخطيئة لأنّ الخطيئة دخيلة على الإنسان، لأنّنا نحن أيقوناتٍ على صورة خالقنا. وعندما نحافظ على أيقونتنا نكون "طبيعيّين"، ولكن بالمقابل مطلوب أن نكون مجانين بيسوع معشوقنا الأوّل.
الشيطان استعمل عبارة "قبل الوقت". لكلمة "وقت" مدلول مهمّ جدًّا في اللاهوت. فهناك فرق كبير بين الزمن الذي نعيش فيه وخروجنا منه لندخل الوقت مع الله. لهذا، الكلمتان في اليونانيّة مختلفتان، فالوقت هو Kαιροῦ/kairou بينما الزمن هو Chronos/Χρόνος . هذه ليست صفصات كلاميّة بل معان لاهوتيّة.
فإذا قرأنا نصّ إنجيل لوقا، لاحظنا الفرق، فهو يقول: "لأَنَّهُ أَمَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ مُنْذُ زَمَانٍ كَثِيرٍ كَانَ يَخْطَفُهُ، وَقَدْ رُبِطَ بِسَلاَسِل وَقُيُودٍ مَحْرُوسًا، وَكَانَ يَقْطَعُ الرُّبُطَ وَيُسَاقُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَى الْبَرَارِي". (لوقا ٢٩:٨)
الإنجيليّ لوقا إستعمل كلمة زمان/زمنChronos/chronois . الربّ تجسّد ودخل الزمن ليخرجنا من الزمن إلى اللازمن، إلى وقت لا ينتهي، نعيش معه ولا يحدّه أي شيء.
هذا تمامًا ما يفعله الكاهن في السَحَر قبل أن يرتدي ثيابه الكهنوتيّة، فهو يقف في الوسط أمام الإيقونسطاس – حائط الأيقونات – ويصلّي ويقبّل الأيقونات ويستغفر الشعب. تسمّى هذه العمليّة "كيرون" منKαιροῦ/kairou . كذلك يقول الشمّاس للكاهن قبل البدء بالقدّاس الإلهيّ مباشرة "ها هو وقت يُعمل فيه للربّ".
يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم عن القدّاس الإلهيّ بأنّه خروج من الأرض (الزمن) وترابيّتها ومحدوديّتها وصعود إلى السماء. لهذا، يقف الكاهن في الهيكل وجهه إلى الشرق تمامًا كما يقف الشعب، جميعهم في اتّجاه واحد إشارة إلى نور الربّ الذي يشرق علينا، وليس كما يظنّ البعض أنّ الكاهن يدير ظهره إلى المؤمنين.
أمّا كلمة "لِتُعَذِّبَنَا؟" فيستوجب الأمر أيضًا الوقوف عندها. خوف الشياطين من عذاب الربّ هو خوف الظلمة من النور. هم اختاروا البعد عن الله، فسقطوا في العذاب الأبديّ، في ما يسمّونه "جهنّم".
هنا نطرح السؤال: ما هي "جهنّم" وأين تقع؟
يقول لنا الربّ: "وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ فَاقْطَعْهَا. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكَ يَدَانِ وَتَمْضِيَ إِلَى جَهَنَّمَ، إِلَى النَّارِ الَّتِي لاَ تُطْفَأُ." (مرقس 43:9). ويكرّر يسوع كلامه عن الرِجل والعين.
كلام المخلّص يفتح لنا بُعدًا آخر عن جهنّم. فكما هو معروف كان اليهود يتكلّمون على وادي ابن هنّوم أو هنّوم Hinnom التي أتت منها كلمة Gēhīnnōm و Gēhīnnām في اللاتينية و Gehenna/Γέενναفي اليونانيّة.
يقع الوادي خارج مدينة أورشليم القديمة ويحيط بها، ويعرف أيضًا بوادي الربابة Wadi el-Rababa، وفيه يجري عقاب الله في نار لا تطفأ. هو مذكور كحدود بين سبطَي يهوذا وبنيامين (يشوع 8:15)، ولكن الأهمّ أنّه كان مكانًا ضحّى فيه بنو يهوّذا بأطفالهم بالنار ظنًّا أنّهم يكفّرون عن شرّهم، وهذا طبعًا لم ينل رضى الربّ فدعي المكان وادي القتل. وسمّي أيضًا Sheol الذي ترجم إلى Hell.
كما يأتي أشعياء النبيّ على موضوع العقاب من دون أن يذكر الاسم، مثلًا: "وَيَخْرُجُونَ وَيَرَوْنَ جُثَثَ النَّاسِ الَّذِينَ عَصَوْا عَلَيَّ، لأَنَّ دُودَهُمْ لاَ يَمُوتُ وَنَارَهُمْ لاَ تُطْفَأُ، وَيَكُونُونَ رَذَالَةً لِكُلِّ ذِي جَسَدٍ». (إشعياء 24:66). هذا أخذ تعبير الموت الثاني أي البُعد الأبديّ عن الله في عذاب مرير وحارق. وهناك من يذكر عند اليهود، عقابًا لا يتعدّى الاثني عشر شهرًا بحيث يتوقّف العذاب كلّ يوم سبت كونه نهار مقدّس. الصورة بشكل عام، الخلاص يكمن داخل المدينة – مدينة أورشليم – وخارجها الموت.
بالعودة إلى ما قاله الربّ، فجهنّم هي عكس الملكوت. أمّا أين تقع، فهي ليست مكانًا بل حالة، وتبدأ فينا ومن هنا! إمّا نكون مع الربّ أو لا نكون.
المجنون بالربّ يعشقه ويلهج به نهارًا وليلًا، وينهض في منتصف الليل ويصلّي المزمور 118 (119) قائلًا: "طُوبَى لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ. مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ"، وعندما يصل إلى الآية: "إِنَّهُ وَقْتُ عَمَلٍ لِلرَّبِّ" (126) ينتصب تائبًا وعازمًا أن ينطلق إلى حياة جديدة.
إلى الربّ نطلب.
[1]. متى 28:8